تأسيس سر الأفخارستيا :
وأمسك كأسا ممزوجة من خمر وماء وقال لهم بفمه الإلهى الطاهر : أن هذا هو دمه المسفوك عن خطايا العالم .
وهذه الكأس هى غير الأربعة كئوس التى كانت تشرب أثناء أكل الفصح .. لأن الفصح كان قد تم أكله ورفع من على المائدة من قبل غسل الأرجل .
يقول البعض أن السيد المسيح قد أسس سر الأفخارستيا فى حضور يهوذا الأسخريوطى ... وأن يهوذا قد اشترك فى التناول قبل خروجه ، إلا أن هذا القول مردود عليه من قول السيد المسيح : " إنه هو الذى سأعطيه اللقمة التى أغمسها " . ثم غمس اللقمة وقدمها ليهوذا بن سمعان الأسخريوطى " ( يو 13 : 26 ) ، وواضح أن النص هنا لا يتكلم عن التناول ، فالتناول ليس فيه غمس .
ســــــــــر الأفخارستيا :
إن تأسيس سر الأفخارستيا فى الليلة الأخيرة للسيد المسيح ، له دلالة هامة ، وترتيب بحكمة إلهية فائقة ، لقد تحدث السيد المسيح عن الخبز الحى ، وعن أكل جسده ، فى أكثر من مناسبة ، مرة للتلاميذ ومرات للجمهور ، وهناك من تقبل هذا الكلام ، وآخرون لم يفهموه بل وتركوه ومضوا ، ولم يتراجع السيد المسيح عن أى كلمة أو حرف ، مما قاله بل ترك لمن يرجعون للخلف أن يمضوا ... لقد اعترض اليهود على كلام السيد المسيح ، هذا الأعتراض المبنى على حكم العقل والحواس الجسدية قائلين ( كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل ؟ يو 6 : 51 ، 52 ) . وأيضا أعترض الكثيرون من تلاميذه نفس الأعتراض الحسى والعقلى قائلين " إن هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه؟ "
فماذا كان جوابه لهم ؟
كان جوابه لهم مبنيا على إباحة استعمال العقل ، ولكن فى حدود سلطانه فقط . قال ( أهذا يعثركم فإن رأيتم ابن الأنسان صاعدا إلى حيث كان أولا ) .. أى أنكم لو عملتم مقارنة عقلية بسيطة بين ماصنعته أمامكم من المعجزات الحسية وما سترونه من آية صعودى بالجسد إلى السماء مستقبلا ، وبين ما أقوله لكم اليوم من أن الخبز الذى أنا أعطيه لكم هو جسدى ، لعرفتم قدرتى وصدقتم قولى ، ولم تجدوا شيئا يعثركم ، ثم كمل جوابه قائلا ( الروح هو الذى يحى . أما الجسد فلا يفيد شيئا لأن كلامى هو روح وحياة ) . أى لا تأخذوا السر تحت حواسكم الجسدية . ويكفيكم من جهة هذه الحواس ما صنعته أمامكم من المعجزات وما سترونه بعيونكم من صعودى إلى السماء فتؤمنون بالمقارنة إلى ذلك بكل أقوالى وأسرارى .
إن السيد المسيح لم يلغ استعمال العقل البشرى لأنه موهوب منه ، إنما أباح استعماله فى حدود السلطان الممنوح له من الله . التلاميذ الأثنى عشر استعملوا عقولهم فى حدود هذا السلطان فآمنوا بأن الخبز الذى سيعطيه المسيح لهم هو جسده ولو لم تتحقق عقولهم وحواسهم من ذلك تحققا ماديا .
واليوم نجد من الطوائف ما يرفض أن قرره السيد المسيح ، فليمضوا مع من مضوا ، فمن لا يأكل من جسد السيد المسيح ويشرب من دمه فهو لم يستفد من ذبيحة الصليب أو من عملية الخلاص التى أتمها السيد المسيح له المجد. لأن السيد المسيح صلب ومات عن البشرية كلها ... ولكن الذى يأكل من جسده ويشرب من دمه هو فقط الذى أستفاد من عملية الفداء ..... ، عندما أشبع السيد المسيح الشعب من الخبز والسمك ، ثم تبعوه ليأكلوا من هذا الخبز ، وجه أنظارهم إلى الخبز الحى ... ولهذا فلابد فى هذا المجال أن نتحدث بإيجاز عن سر الأفخارستيا .
( أسماء الــســــــر ورموزه )
لهذا السر أسماء كثيرة ، وكل منها يدل على معنى مخصوص من مفاهيمه ومقاصده السامية ومنافعه الفائقة للطبيعة . وكلها مأخوذة من نصوص وروح الكتاب المقدس ، وهذه بعضها :
الأفخارستيا وهى كلمة يونانية معناها الشكر ، ســــر الشكر ، مائدة الرب ، المائدة الربانية ، العشاء السرى ، العشاء الربانى ، سر التناول ، الأسرار الألهية ، المائدة الرهيبة ، الذبيحة المقدسة ، الجسد والدم ، الذبيحة غير الدموية ، خبز الحياة ، المائدة المقدسة ، الخبز السماوى ، طعام الحياة ، سر الأسرار ، الوليمة الألهية ، الوليمة السماوية ، السر المجيد ، .... إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على سموه وعظمته .
سمو السر :
أسرار الكنيسة السبعة هى نعم فائقة جليلة سماوية ، ينالها المؤمن بمواد يقدسها الروح القدس باستحقاقات سر الفداء العظيم الذى أكمله ربنا يسوع المسيح على الصليب ، وهى سرية باطنية ينالها المؤمن تحت العلامات والمواد المنظورة التى تتقدس كما رسم لها الله تعالى وما هى إلا بمثابة قنوات ومجارى تتدفق فيها النعم من نهر الفداء العظيم ، لذلك من طقسها رسم الصليب وذكر الفداء .
وأنه وإن كانت جميعها سامية جليلة لخلاص المؤمنين وتقويتهم فى الحياة الروحية والجسدية ...الخ إلا أن العشاء الربانى أسماها مقاما ، وأغزرها فيضا وأعمها شمولا ، وأكثرها إظهاراللحب الفائق فى سر الفداء العجيب للأسباب الآتية :
أولا : سموه عن الأدراك حيث أن المادة المنظورة فى كل سر غيره تلبث كما هى غير متغيرة ولا مستحيلة ، ولكن فى سر التناول لا تلبث المادة أى الخبز والخمر على حالها بل تستحيل أو تتغير ، أما الخبز فإلى ذات جسد المسيح وأما الخبر فالى دمه ، وذلك بوجه سرى يفوق الفهم كما شاءت سلطته وقدرته العلوية .
ثانيا : عظم الموهبة والنعمة التى ينالها المتقدم لهذا السر فان ربنا له المجد يهب المؤمنين بعضا من مواهب الخلاص بواسطة الأسرار الأخرى كل بحسب غايته وطبيعته ، إلا أنه فى هذا السر يقدم لنا ذاته المقدسة غذاء وشرابا فتجرى إلينا وفينا حياته وتصير حياتنا كما أنه بذلك يجعل المؤمنين جميعا جسدا واحدا أو روحا واحدا .
ثالثا : أن الرب يقدس بروحه الأقدس سائر الأسرار ولكنه فى هذا السر يحضر بلاهوته وناسوته معا ، فيلهب قلوبنا بالأشواق المقدسة والعبادة الحارة لشخصه المبارك .
رابعا : أن الأسرار الأخرى من بركات ذبيحة الفداء أما هذا السر فهو الذبيحة نفسها .
ظروف اقامة السر كالوعد ونصوصها الصريحة :
لماذا أسس رب المجد سر الأفخارستيا فى الليلة الأخيرة ؟؟
ما الفرق بين سر الأفخارستيا ، وذبيحة الصليب ؟؟
إن الظروف التى أسس فيها هذا السر تعطينا دليلا واضحا على صدق العقيدة الأرثوذكسية .
( أولا ) نجد السيد المسيح مارس أولا الفصح اليهودى الذى كان يرمز لهذا السر وبعد اتمامه وختمه شرع فى تأسيس الفصح الجديد أى أنه خرج من الظل إلى الحقيقة ومن الصورة والمثال إلى الواقع وكما كان العهد القديم مثبتا بدم الحيوانات ، هكذا نجده ثبت العهد الجديد بدمه الثمين ولو كان ثبته بالخمر فقط كما تزعم بعض الطوائف لكان العهد القديم أشرف من العهد الجديد وهذا لم يقل به أحد .
( ثانيا ) إن السيد سلم السر لتلاميذه فى آخر ليلة من حياته على الأرض والانسان عادة فى مثل هذه الساعة يتوخى الأيضاح والأفصاح لا الأبهام والتأويل ، مهما عاش كل حياته يتكلم بالمجاز والألغاز ، فهل السيد المسيح الذى كان يفسر لسامعيه كل اقواله يصدر منه إبهام وألغاز وقت الإيضاح والإفصاح ؟ حاشا .....
( ثالثا ) إذا رجعنا إلى نصوص الأناجيل الثلاثة التى وردت فيها حادثة تأسيس السر وهى فى متى 26 ومرقس 14 ولوقا 22 نجدها تصف وليمة حدثت فعلا ، وليس هناك فى وصفها مجال للأبهام بل هى غاية فى الصراحة والأفصاح . لأن جميعها تنص أن السيد أخذ خبزا وبارك وشكر وكسر وأعطى تلاميذه قائلا : خذوا كلوا هذا هو جسدى والخمر قائلا اشربوا هذا هو دمى .. أليست هذه الألفاظ تصف أفعالا حدثت بالتمام ( أخذ – وبارك – وشكر – وكسر – وأعطى – وقال - ...الخ ) وقد فهم الرسل أقواله وأفعاله كما تفهمها الكنيسة الآن وسلموها لها فى مفترق أنحاء المعمورة سالمة كاملة كما هى . وآمنت بها الأمم الكثيرة المختلفة الأجناس والمجامع المقدسة لمدة أجيال عديدة وأزمنة مديدة .
فهل خدع السيد المسيح تلاميذه وهم أيضا خدعوا الكنيسة والأمم والمجامع وبقيت هذه الضلالة راسخة بالكنيسة حتى القرون المتأخرة ؟ هل هذا منطق معقول ؟ ومن يتجاسر أن يقول ذلك أو يؤمن بغير ما سلمه المسيح لتلاميذه وسلمه هؤلاء للكنيسة وباق فيها إلى اليوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق